والدي رحمة الله عليه من مواليد عام 1907، وحصل علي ليسانس في الحقوق،
وليسانس في الآداب قسم تاريخ، وكنت أنبهر وأنا طفل صغير بذاكرته الفولاذية في رسم
خرائط دول العالم وتشبيهاته للتذكرة بخريطة كل دولة، فمصر فاتحة يديها إلي العالم،
وإيطاليا أشبه بحذاء شتوي طويل (بوت)، وهكذا..، وكان حينما يساعدني في فهم قواعد
الصرف والنحو في اللغة العربية كنت أتعجب من بلاغته وقدرته علي تبسيط قواعد اللغة
والتي كانت بالنسبة لي أشبه بالطلاسم، وعندما كنت ألجأ إليه لفهم اللغة الإنجليزية
أو السؤال عن معني بعض المفردات كنت أجد الإجابة عنده فوراً رغم أنه لم يكن قد درس
في أي مدارس أجنبية، وكان يحكي لي قصصه مع مدرّسيه، وتعلمت منه أن أستاذه
للجغرافيا في المرحلة الثانوية كان عالماً شهيراً هو الرحالة «علي ثابت»، وكان له
اكتشافاته المثيرة في أفريقيا، وكان الرحالة «علي ثابت» - أستاذ الجغرافيا في
المدارس الحكومية في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي - ينشر اكتشافاته في مجلة
«الرسالة» التي كان يرأس تحريرها عميد الأدب العربي الدكتور «طه حسين».
وكان والدي يحكي لي أن أستاذ اللغة العربية الذي تتلمذ عليه كان الشيخ
«علي الجارم»، والشيخ «علي الجارم» أديب معروف وشاعر علّامة، وجيلي من الأبناء كنا
ندرس أشعاره في مناهج اللغة العربية في السبعينيات من القرن الماضي، وكان والدي -
رحمه الله - يفتخر بتلمذته علي يد الشيخ «علي الجارم»، والذي شاءت الأقدار أن
ألتقي بحفيده صديقي د/ علي الجارم أثناء دراستي في إنجلترا، وهو حالياً أستاذ
بكلية الطب جامعة القاهرة، وكان والدي يحكي لي بفخر كيف أن الشيخ «علي الجارم»
أعطاهم امتحاناً في مادة التعبير، وكان موضوع التعبير «هب أنك زهرة في بستان فماذا
أنت فاعل؟»، ويحكي لي كيف أن الشيخ «علي الجارم» غضب منهم مرة فكان موضوع التعبير
«هب أنك حمار فماذا أنت فاعل»؟!!
ولم تخل ذكريات أبي عن دراسته من ذكر اسم أستاذه في اللغة الإنجليزية
مستر «يدز»، والذي عاد بعد ذلك إلي بلاده في إنجلترا، وصار كبيراً لمفتشي وزارة
التعليم في الإمبراطورية البريطانية..، وظل علي تواصله بتلاميذه حتي توفي في منتصف
الستينات من القرن الماضي...
حينما كبرت وعدت أتذكر هذه الحكايات أدركت مدي جودة التعليم في هذا
الجيل، وقد كانت الفترة من العشرينيات إلي منتصف الستينيات من القرن الماضي هي
العصر الذهبي للتعليم الأساسي الحكومي في مصر، وكانت هذه الفترة تمثل عصر النهضة
التعليمية بكل معاني الكلمة، ولكني أدركت كذلك أن هذه النهضة التعليمية لم تكن
بسبب عدد المدارس، أو قلة عدد التلاميذ في الفصول، أو حتي جودة المناهج، بل كانت
كلمة السر هي جودة وكفاءة الأساتذة القائمين علي التعليم الحكومي، فلم يكن متصوراً
أن يكون معلومات تلاميذ الرحالة «علي ثابت» في الجغرافيا ضحلة، أو أن تكون اللغة
العربية لتلاميذ الشاعر «علي الجارم» ركيكة، أو تكون الثقافة الإنجليزية لدي
تلاميذ مستر «يدز» مرتبكة؛ فمفتاح النجاح في نهضة التعليم الأساسي - أي الابتدائي
والإعدادي والثانوي - هي «المدرّس».
مصر في القرن الواحد والعشرين حصلت علي الترتيب الـ(141) بين دول
العالم من حيث جودة التعليم الأساسي، فكنا - طبقاً لتقارير التنافسية العالمية -
علي مدار السنوات الخمس الماضية واحدة من أسوأ ثلاث دول في العالم من حيث جودة
التعليم الأساسي بمراحله الثلاث الابتدائي والإعدادي والثانوي.
النهضة الشاملة لهذه الأمة تبدأ من رفع مستوي التعليم، ورفع مستوي
التعليم لن يتحقق إلا إذا بدأنا بالمدرّس، فصناعة العقول وشخصية الإنسان تبدأ من
عند المدرس، وهي خطوة أهم وأصعب من بناء المدارس وتجديد المناهج، فلا جدوي من كل
هذا لو لم يكن لدينا مدرّسون أكفاء..، انهيار التعليم الأساسي في مصر لم يكن سببه
الرئيسي ارتفاع كثافة الفصول ولا تردي المناهج، بل كان في المقام الأول تدهور
الحالة التعليمية والثقافية والمالية للمدرس ذاته.
ولذلك ليس من المستغرب أن تكون دولة مثل سنغافورة أو فنلندا علي رأس
أفضل دول العالم من حيث جودة التعليم، فرواتب المدرّسين هي الأعلي في سنغافورة
وبخاصة مدرسي رياض الأطفال والمرحلة الابتدائية، كما أن متطلبات الدراسة التأهيلية
للمعلمين ليست باليسيرة، وحينما سئل «لي كوان» عن أهم أسباب نجاحات سنغافورة رد
قائلاً: «..، إننا نصرف موارد الدولة علي التعليم، وإننا نعطي المدرّسين أعلي
الأجور».
إنسي كثافة الفصول، والنظام الغذائي في المدارس، وملابس التلاميذ،
وتطوير المناهج..، السر في التعليم الأفضل هو المدرّس، فهو الركن الأهم في
المنظومة التعليمية، توجد دراسة أمريكية منشورة منذ أسابيع قليلة تثبت أن الحصيلة
التعليمية التي يحصل عليها الطلاب من المدرّسين الأكفاء تزيد بثلاثة أضعاف عن
الحصيلة التعليمية التي يحصل عليها الطلاب من المدرّسين الأقل كفاءة، فالمعيار
الرئيسي في الجودة التعليمية هي التحصيل من المدرّس، يجب أن تسعي الدولة مرة أخري
للاستثمار في المدرّسين، ورفع مستوي تعليمهم؛ فناقص الشيء لا يعطيه، إذا كان هناك
مشروع قومي أولي بالرعاية فلا شك عندي أنه المشروع القومي لتدريب وتأهيل
المدرّسين، يجب تعظيم كفاءة أجيال المدرّسين الحاليين، إن المدرّس الجيد قادر علي
إخراج أجيال رائعة من الطلاب من شأنهم تغيير وجه مصر إلي الأفضل إلي الأبد، لست
خبيراً في برامج تأهيل المدرّسين ولا أعلم ماذا يفعل المجلس الاستشاري للتعليم
التابع لرئيس الجمهورية، وليست لدي معلومات بشأن ما تقوم به وزارة التعليم بشأن
برامج تأهيل وتدريب المعلمين، ولا أعلم ما الذي فعله المجلس الأعلي للجامعات لرفع
مستوي التعليم والتدريب للكليات المتخصصة للمعلمين، كل ما أعلمه أن حالة المدرّسين
الثقافية والعلمية والمالية سيئة، وأن صانعي العقول والأجيال يعانون بمعني الكلمة،
وكل ما أدركه أنه ما من دولة نجحت في تحقيق نهضة حقيقية لنظم تعليمها إلا وكانت
البداية بتعليم وتأهيل المدرّسين وتطوير قدراتهم، المدرّسون في فنلندا - وهي
الدولة رقم (1) في العالم - يتقاضون مرتبات أعلي قليلاً من نظرائهم في الدول
الأوروبية، ولكنهم الأفضل بسبب برامج تدريبهم وتأهيلهم ونظرة المجتمع الإيجابية
إليهم، إن تطوير المناهج، وأساليب التعليم، والبحث عن الموهوبين، والإدارة المثلي
للمدارس، وخلق مواطن صالح؛ هي مهام المدرّس، فهو صانع العقول والأجيال..، فإذا لم
نبدأ بتدريبه وتعليمه ستستمر المنظومة التعليمية في الانهيار، وتتبدد أحلامنا في
النهضة.
أرجو أن يتبني الرئيس مشروعاً قومياً قوامه «المدرّس المصري»، أرجوك سيادة الرئيس أن تهتم بهذا المشروع، فهذا
المشروع هو مشروع النهضة المصرية بكل ما تعنيه الكلمة..، ففي وقت من الأوقات كان
المدرّس المصري من أعمق أدوات القوي الناعمة لمصر، واسألوا جيل الرواد في الدول
العربية، فجميعهم تتلمذ وتكونت ثقافاته علي أيدي المدرّسين المصريين. اللينك
0 التعليقات:
إرسال تعليق