وزارة الاستثمار من أكثر الوزارات «اللي
تاعبة» الدولة منذ استحداثها عام 2004، فبعد أن سافر أول وزير للاستثمار في مصر -
الدكتور/ محمود محيي الدين - لتولي منصبه الجديد في البنك الدولي عام 2010؛
والوزارة تعاني من عدم الاستقرار. فبعد سفره تولي المهندس/ رشيد محمد رشيد - وزير
التجارة والصناعة في ذلك الوقت - مهام هذه الوزارة مؤقتاً. والوزارة عند استحداثها
لأول مرة عام 2004 كانت معنية بملفات ثلاثة: الملف الأول: ترويج وتشجيع الاستثمار
المباشر ورسم السياسات المتعلقة به، وإزالة العقبات التي تحول دون نموه. والملف
الثاني: الإِشراف علي السياسات المتعلقة بالقطاع المالي غير المصرفي وتطويره،
ويشمل هذا القطاع سوق رأس المال والتأمين والتمويل العقاري والتأجير التمويلي.
وأما الملف الثالث :فهو ملف شركات قطاع الأعمال العام، وهي تلك الشركات التي تساهم
الدولة في أغلبية رأسمالها وتخضع لقانون قطاع الأعمال العام، ومنها شركات الغزل
والنسيج وشركات الأدوية، وشركات قطاع المقاولات - عدا المقاولون العرب، وشركات
النقل البري والنقل البحري، وشركات السياحة والفنادق وشركات قطاع التعدين...
وهكذا... وكان هناك اتجاه في نهاية عام 2010 لإلغاء وزارة الاستثمار، بحيث تنتقل
تبعية القطاع المالي غير المصرفي لهيئة الرقابة المالية، ويتبع رئيسها رئيس مجلس
الوزراء، ويدار قطاع الأعمال العام من خلال صندوق سيادي علي غرار التجربة
الماليزية، وتنتقل تبعية هيئة الاستثمار إلي وزارة التجارة والصناعة، وتستخدم
مكاتب التمثيل التجاري المنتشرة حول العالم للترويج للاستثمار في مصر. وقامت ثورة
25 يناير، ولم تتطور الفكرة إلي أبعد من ذلك، وارتأت حكومة د/ شفيق الثانية إلغاء
وزارة الاستثمار برمتها، حيث كانت هناك وجهة نظر داخل المجلس العسكري أن هذه
الوزارة «سيئة السمعة»!! استخدم حرفياً المصطلح الذي استخدمه عددً من المسئولين في
ذلك الوقت، وتاهت الوزارة وما يتبعها من قطاعات رغم أهميتها، فأصبح رئيس هيئة
الرقابة المالية يتبع رئيس الوزراء تارة ووزير المالية تارة أخري، وأصبح رئيس هيئة
الاستثمار يتبع رئيس الوزراء، وصار لقطاع الأعمال العام قائم بأعمال الوزير.
واستمر الوضع علي ما هو عليه حتي أعيدت وزارة الاستثمار مرة أخري للحياة في عهد
الإخوان. وفجأة وبلا مقدمات تم فك وزارة الاستثمار مرة أخري عام 2016 في حكومة
دكتور/ شريف إسماعيل الثانية، وفي هذه الحكومة انقسمت الوزارة إلي وزارة الاستثمار
ووزارة قطاع الأعمال، وأصبحت وزارة الاستثمار مسئولة عن ملف وحيد أو رئيسي ألا وهو
تشجيع الاستثمار والترويج له وإزالة العقبات المرتبطة به. ولم يوضح مجلس الوزراء
ولا رئيسه أسباب هذا القرار أو مبرراته أو أهدافه، وهي عادة سيئة، فكأن إلغاء
وزارات أو استحداث وزارات أمر يسير غير مكلف يخص رئيس الوزراء وحده دون غيره... ما
علينا... ليس هذا هو موضوعنا اليوم... لكن كيف كان من المتصور أن ينجح الاستثمار
خلال الخمس سنوات السابقة في ظل هذا التخبط المؤسسي الحكومي وغياب الرؤية، ناهيك
عما كانت تعاني منه مصر؟.. لم أشرف بمعرفة وزيرة الاستثمار الجديدة الأستاذة/
داليا خورشيد، وسأحاول فيما تبقي من سطور أن أتوجه لها ببعض الخواطر، فملف
الاستثمار تحت الوزارة الجديدة - كما أفهمه - يعتمد علي محاور رئيسية أربعة:
المحور الأول: ملف سياسات الاستثمار وإزالة
العقبات ومعوقات الاستثمار.
المحور الثاني: ملف الترويج وتنشيط
الاستثمار المباشر في مصر سواء أ كان هذا الاستثمار محلياً أو أجنبياً.
المحور الثالث: الملف الخاص بالإطار
التنظيمي والرقابي لأنشطة الشركات التجارية، حيث إنه منذ عام 2004 ألغيت مصلحة
الشركات وصار نشاطها جزءاً لا يتجزأ من الهيئة العامة للاستثمار التابعة بدورها
لوزارة الاستثمار، فكل ما يتعلق بإنشاء الشركات وزيادة رءوس أموالها وتغيير
نشاطها، وكذلك نظام المناطق الحرة والمناطق الاستثمارية الخاصة؛ يخضع للهيئة
العامة للاستثمار.
المحور الرابع: ملف فض المنازعات بين
الجهات الحكومية والمستثمرين، وهذا الملف توقف لمدة ستة أشهر تقريباً بعد تعديل
قانون الاستثمار في عام 2015، وعاد ليتباطأ بعض الشيء خلال الأسابيع القليلة
الماضية.
والهيئة الرئيسية التي تتبع وزارة
الاستثمار الآن هي الهيئة العامة للاستثمار، والتي ترأس الوزيرة مجلس إدارتها.
الهيئة العامة للاستثمار معنية بشكل مباشر بالمحاور الثاني والثالث والرابع.. وفي
رأيي أن هناك أولويات ثلاثا يجب أن تحظي باهتمام الوزيرة خلال الشهور الثلاثة
القادمة هي: أما الأولوية الأولي فهي إعادة هيكلة وتطوير أداء الهيئة العامة
للاستثمار، فهي البوابة الرئيسية للاستثمار في مصر.
والملفات الرئيسية التي تقع تحت مسئولية
وزارة الاستثمار تتولاها عملياً الهيئة العامة للاستثمار. وأرجو من الوزيرة ألا
يقتصر اهتمامها علي الملف الأول الخاص بالترويج، فالملفان الخاصان بالإطار
التنظيمي والرقابي وكذلك فض المنازعات لا يقلان أهمية عن ملف الترويج، فالترويج
ليس فقط لمشروعات بعينها، بل هو ترويج لمناخ الاستثمار باعتباره منتجا. فكيف يمكن
الترويج لمصر أو للاستثمار فيها ما لم يتم رفع كفاءة الأداء الرقابي والتنظيمي
وسرعة فض المنازعات؟ فهذه هي الملفات الرئيسية التي تشغل المستثمرين. وباعتباري
واحداً من المتعاملين مع ملف الاستثمار علي مدار الثلاثين عاماً الماضية؛ أؤكد بلا
تردد أن تطوير منظومة العمل وأداء الهيئة هو الأولوية الأولي وسيكون له مردود
إيجابي، ويجب أن تكون القيادة التنفيذية الجديدة للهيئة ذات خبرة إدارية رفيعة
المستوي ودراية بمقتضيات العمل الرقابي والتنظيمي المعنية بها الهيئة. فهيئة
الاستثمار ليست بنك استثمار وليست مستشارا ماليا، وليست شركة من شركات ترويج
الاستثمار بمفهوم سوق المال وأنشطة الاستحواذ، فمجرد نجاح شخص في هذه المجالات لا
يعني قدرته علي إعادة هيكلة وتطوير هيئة الاستثمار، فدورها أكبر بكثير من ذلك، فهي
تضم وظائف عدة رئيسية - التسويق واحد منها. ولكن منح التراخيص، واعتماد إجراءات
التأسيس، وفض المنازعات، وتمثيل الجهات الحكومية، والتفتيش علي الشركات، وزيادات
رءوس الأموال، واعتماد الجمعيات العمومية وقرارات مجالس الإدارة، واعتماد
التقييمات، وتخصيص الأراضي، وإدارة ملفات المناطق الحرة العامة والخاصة، ومتابعة
الموافقات الأمنية، وفك الاشتباك مع هيئة الرقابة المالية والتنمية الصناعية وجهاز
شبه جزيرة سيناء، والمحافظات، والسجل التجاري... كلها أمور إجرائية ولكنها تمثل
المنغصات الحقيقية للاستثمار في مصر، لو تم حلها بشكل عاجل لصارت مهمة الترويج
للاستثمار مسألة في غاية البساطة، فالبداية لإصلاح مناخ الاستثمار تكمن في التطوير
المؤسسي لأداء هيئة الاستثمار.
لو لم يكن الجهاز التنفيذي الأعلي للهيئة
محيطاً وملماً بهذه الملفات فسيجد نفسه خلال أيام قليلة قد وقع في فخ البيروقراطية
لا يقوي علي اتخاذ قرار إصلاحي واحد.
أما الأولوية الثانية خلال الثلاثة شهور
الأولي فهي تخص وضع ملف السياسات وخطة العمل الخاصة بإزالة معوقات الاستثمار
الرئيسية في مصر، علي أن تُعتَمد هذه السياسات والخطة من رئيس الجمهورية ومجلس
الوزراء، لأن تنفيذ هذه السياسات يدخل في اختصاص كافة أجهزة الدولة تقريباً، وهو
ما يقتضي المسئولية التضامنية لمجلس الوزراء عن تنفيذ هذه السياسات، ولعل أبرز
رءوس موضوعات المعوقات الواجب اقتحامها الآن: تخصيص الأراضي الصناعية - تخصيص
أراضي الاستثمار الزراعي - توفير الطاقة - تراخيص التشغيل الصناعي - الموافقات
الأمنية بشأن الأجانب المساهمين في شركات الاستثمار - الربط والفحص الضريبي -
الإجراءات الجمركية - العملة الأجنبية - النقل البري والنهري فيما يخص التجارة
الداخلية - تصفية المشروعات - إجراءات الصلح الواقي من الإفلاس - تسوية المنازعات
التجارية.
وبالمناسبة سيدتي الوزيرة توجد سياسات
ودراسات مستفيضة لدي الوزارة والهيئة بشأن هذه الموضوعات جميعاً... فقط تحتاج
تنفيذها وأولويات لتطبيقها.
أما الأولوية الثالثة، فهي سرعة البت في
المنازعات المنظورة الآن أمام لجان فض المنازعات المختصة، والأهم هو إنفاذ
قراراتها. إذا تحققت الأمور الثلاثة السابقة فسنكون قد أزلنا 75% من مشكلات
الاستثمار في مصر. لا تشغلي بالك كثيراً معالي الوزيرة بإصدار قانون جديد للاستثمار،
فهذه خطوة تالية وليست ضرورية الآن.
كلمة أخيرة: إذا ركزنا في حل المشاكل
السابقة - وهي ليست عويصة كما يبدو - فإن التسويق للاستثمار في مصر لن يكون أمراً
عسيراً، ولكن اليقين أننا إذا بدأنا في الترويج والتسويق للاستثمار بشكل عام
ولمشروعات أو أفكار مشروعات بشكل خاص دون إصلاح الهيئة وسياسات الاستثمار وفض
المنازعات؛ فسوف نرمي فلوس المواطن الغلبان في الأرض، فنجاح التسويق يعتمد في
الجانب الأكبر منه علي جودة المنتج، والمنتج هنا هو مناخ الاستثمار. لو لم نفعل
ذلك فسيكون بمثابة الحرث في البحر. اللينك
استمع الي المقال عبر منصة اقرأ
لي.. اللينك
0 التعليقات:
إرسال تعليق