جريدة الاخبار - 9/7/2015
أثار قرار البنك المركزي المصري مؤخراً برفع سعر الدولار الأمريكي
أمام الجنيه المصري بحوالي 20 قرشاً خلال يومين متتاليين جدلاً كبيراً ما بين
مؤيد ومعارض.
ودعوني أبدأ ببعض الحقائق التي قد لا تكون واضحة لدي الكثيرين. إن
أهداف البنك المركزي طبقاً لقانون إنشائه، القانون رقم 88 لسنة 2003 تنحصر في
هدفين رئيسيين، وهما تحقيق الاستقرار في أسعار السلع والخدمات، أي الحد من
التضخم وارتفاع الأسعار كهدف أول. أما الهدف الثاني فهو العمل علي سلامة النظام
المصرفي ومتانته في إطار السياسة الاقتصادية العامة للدولة. وعلي الرغم من
استقلالية البنك المركزي، فإن القانون يفرض علي البنك المركزي والحكومة، بأن
يقوم البنك المركزي بوضع أهداف سياسته النقدية بالاتفاق مع الحكومة، وذلك من
خلال مجلس تنسيقي يشكل بقرار من رئيس الجمهورية.
ولا يكفي أن يُدعي محافظ البنك المركزي إلي اجتماعات اللجنة
الاقتصادية الوزارية بل يجب أن يكون ذلك من خلال مجلس تنسيقي يتم فيه الاتفاق
علي أهداف السياسة النقدية. وللأسف هذا المجلس التنسيقي معطل الآن دون سبب واضح.
والبنك المركزي يعمل علي تحقيق هذه الأهداف من خلال آليتين
رئيسيتين، الأولي هي السياسات النقدية عن طريق وسائل متعددة بما في ذلك إدارة
السيولة النقدية في الاقتصاد القومي والتأثير في الائتمان المصرفي، وتنظيم
وإدارة سوق الصرف الأجنبي، وذلك بهدف الحد من التضخم وارتفاع الأسعار. أما
الآلية الثانية فهي الرقابة علي البنوك بغرض المحافظة علي سلامة القطاع المصرفي.
فتنظيم وإدارة سوق الصرف الأجنبي هو من صميم عمل البنك المركزي.
ولكن هناك حقيقة هامة أخري يجب أن نعيها، أنه مهما كان أداء البنك
المركزي جيداً، فإن السياسات النقدية وحدها لا تكفي ولن تحقق أية نتائج
إيجابية؛إذ أن أداء الاقتصاد الكلي ضعيف، والسياسات المالية والضريبية مرتبكة، والتدفقات
النقدية من العملة الأجنبية محدودة، والميزان التجاري به عجز بحيث تعتمد مصر في
وفاء معظم احتياجاتها علي الاستيراد بالعملة الصعبة. ويجب أن نذكّر بأن نجاح سياسات البنك المركزي عام 2004 وما تلاها،
وانخفاض سعر الدولار الأمريكي بعد تعويم الجنيه المصري عام 2003، وزيادة
الاحتياطي النقدي الأجنبي إلي 35 مليار دولار أمريكي؛ كل هذا لم يكن ممكناً لولا
تحسن أداء الاقتصاد القومي ككل، وزيادة التدفقات النقدية بالعملة الأجنبية، وزيادة
الاستثمارات الأجنبية بمعدل غير مسبوق.
فالبنك المركزي وحده والسياسات النقدية بمعزل عن السياسات المالية،
وتحسين أداء الاقتصاد القومي ككل لن تؤدي إلي نتيجة، ولن تحمي قوة الجنيه
المصريِ، ولن تقضي علي السوق السوداء مهما فعلنا، ولن تزيد من الاحتياطي النقدي
الأجنبي. بل أقولها بشكل واضح؛ أن السياسات النقدية الحالية بمعزل عن كل ذلك
ستؤدي إلي سلبيات أكثر، وتؤدي إلي الانكماش الاقتصادي ورفع التضخم وليس الحد منه.
فإذا أردنا أن نتأمل قرار البنك المركزي الأخير بتخفيض قيمة الجنيه
ودوافعه؛ فلا شك أن للبنك المركزي مبرراته، فانخفاض اليورو في مقابل الدولار
الأمريكي إزاء الأزمة المالية في اليونان، وارتباط الجنيه المصري بالدولار، أدي
إلي انخفاض اليورو في مواجهة الجنيه المصري، حيث انخفض اليورو بأكثر من جنيه ونصف
تقريباً خلال شهر واحد تقريباً، وهو ما يعني عملياً أن منتجات اليورو صارت أرخص،
وعملياً أصبح الاقتصاد المصري يدعم الواردات الأوربية، وهو ما كان يقتضي التدخل
من البنك المركزي. في ذات الوقت لم يعد من المنطقي تثبيت سعر الدولار بشكل غير
واقعي، والتأثير السلبي علي حصيلة مصر من الصادرات رغم محدوديتها، ولهذا أيضاً
كان لابد من تدخل البنك المركزي. كما أن إدارة النقد الأجنبي بإجراءات فوقية تحد
من السيولة المتاحة لن تؤتي بثمارها علي المدي الطويل، وإنما هي مجرد تحركات
تكتيكية.
المشكلة تكمن أن هذه القرارات للبنك المركزي تُتْخَذ بشكل منعزل
ودون تنسيق حكومي، وهذا في رأيي خطأ مشترك بين الحكومة والبنك المركزي، فلا شك
أن رفع قيمة الدولار في هذا التوقيت سيؤدي إلي ارتفاع الأسعار بشكل مبالغ فيه،
فعلي الرغم من تخفيض الجنيه علي نحو لا يزيد علي 2%؛ فإن الأثر التضخمي لذلك
ربما يتعدي 10% نتيجة
غياب منظومة تنظيم الأسعار في السوق، وانعدام الرقابة، وضعف المنافسة، وآليات
حماية المستهلك. كما أن سياسات البنك المركزي الأخيرة بغرض الحد من آثار السوق
السوداء لا شك أدت إلي إحداث انكماش اقتصادي وتأثير سلبي علي العديد من الأنشطة
والصناعات، وهو ما يتعارض مع السياسة المالية للحكومة والتي تستهدف زيادة
الإنفاق وتنشيط الاقتصاد.
أيضاً سياسات البنك المركزي الأخيرة يشوبها بعض الغموض، فصار من غير
المعلوم ما هي سياسات البنك المركزي المقبلة، وأصبحت السياسات النقدية غير
واضحة، فاختيار الإجراءات وتوقيتها رخصة وحق للبنك المركزي، ولكنها يجب أن تكون
في إطار سياسات نقدية معلنة علي الحكومة وللمستثمرين، ومن قبلهم جميعاً المواطنين.
الخلاصة، أننا نعاني من عدم التنسيق بين السياسات المالية والنقدية،
ونعاني أكثر من غموض السياسات المالية والنقدية علي حد سواء، وهذا هو بيت الداء،
فلا تزال سياساتنا النقدية والمالية تدار بمنطق الحرب خدعة، وهذا أمر يضر
الاقتصاد والاستثمار بشكل كبير، فهذا الغموض يحول دون التخطيط والبناء. اللينك
|
0 التعليقات:
إرسال تعليق