جريدة الاخبار - 14/5/2015
انتهي مولد تصريحات المستشار/ محفوظ صابر، وزير العدل السابق،
بتقديمه استقالته من منصبه. ولا شك أن الوزير قد أخطأ سياسياً بتصريحاته غير
السديدة، فالوزير هنا ـ أي وزير ـ لا يعبّر عن رأيه الشخصي، وإنما يعبّر عن
السياسة الحكومية وسياسة الدولة ورؤيتها. وحينما تتضمن تصريحات الوزير إقراراً لسياسات تخلّ بمبدأ المساواة،
وتمسّ بتكافؤ الفرص بين المواطنين، وتحقّر من شأن فئة من العاملين بسبب وظائفهم - وهي كلها سياسات تخالف النصوص الدستورية - فهنا
يكون الوزير بتصريحاته قد خالف الدستور، وهو وزير العدل، ومن ثَمّ يكون قد ارتكب
خطأً سياسياً جسيماً يستوجب استقالته، وهو ما حدث.
ولعله من اللافت للانتباه أن مسألة تعيين معاوني النيابة هي من صميم
اختصاص المجلس الأعلي للقضاء وحده دون غيره، وأنه لا علاقة لوزارة العدل أساساً
بهذه المسألة، ولا يجوز لها التدخل فيها، وإلا عُدَّ ذلك تدخلاً في شئون القضاء
ومساساً باستقلاليته طبقاً للدستور. ومعني هذا أن وزير العدل السابق تصدي لمسألة
لا تدخل أصلاً في اختصاصات وزارته.
وبعد أن استقال وزير العدل نتيجة تصديه لمسألة لا يختص بها ديوان
وزارته، ولإقراره سياسات تخالف الدستور ومبادئ العدالة والمساواة، يثور تساؤل:
هل ما قاله الوزير المستقيل يعكس الواقع أم يخالفه؟ إن ما قاله وزير العدل
السابق هو ترديد لواقع وقناعات موجودة، وتطبق منذ عقود عديدة، ولم تتغير ولن
تتغير في يوم وليلة لأنها تعكس مفاهيم اجتماعية سائدة داخل المجتمع المصري منها
أن الفقير غير سوي نفسياً. وما قاله رئيس الوزراء عن رفضه لما قاله وزير عدله
السابق هو تصريح سياسي سليم لتهدئة الوضع، ولكنه لا يعكس الواقع. وهذا أمر غير
مسئول عنه رئيس الوزراء، ولا يستطيع تغييره في يوم وليلة. وما قاله وزير العدل
يطبق في العديد من الوظائف، فهو ذات الأمر في مجلس الدولة، والشرطة، والنيابة
الإدارية، والخارجية، والملحقين التجاريين في وزارة التجارة والصناعة... إلخ. والجريمة واحدة وهي أن المتقدم للوظيفة: (غير
لائق اجتماعياً).
يجب أن نذهب لما هو أعمق من ذلك، ونسأل أنفسنا: لماذا لا تثار هذه
الأمور في مجتمعات أخري كما هو الحال في المجتمعات الغربية بل والعديد من
المجتمعات العربية؟ السبب هو انعدام العدالة الاجتماعية، وزيادة الفوارق الطبقية
داخل المجتمع المصري. فمؤدي العدالة الاجتماعية - وهذا هو الدور الحقيقي للدولة - أن يكون هناك حد أدني معيشي وثقافي يشارك فيه
الجميع، الفقراء والأغنياء، أن يكون هناك تناغم نفسي وثقافي بين الجميع، أن تكون
هناك مشاركة في ذات نوعية الخدمات. فالفوارق المادية يجب ألا تخلق فوارق طبقية ونفسية
في كل شيء. فلو أن لدينا تعليما حكوميا محترما؛ ما كنا لنجابه الآن بسيل المدارس
الخاصة، وبتعدد الثقافات داخل المجتمع. لوأن لدينا تعليما جيدا لكان الكل يعلم
ويقدّر قيمة العمل أياً كانت طبيعته. لو كان لدينا تعليم حكومي محترم لشارك
الجميع ذات القيم الاجتماعية والثقافية، وما انعكس ذلك علي التقييم الاجتماعي.
لو أن لدينا خدمات عامة آدمية ومواصلات عامة محترمة لكان الجميع
يشارك ذات الخدمات وتعودوا علي بعضهم البعض، كما يحدث في الخارج، ولكان لدي
الجميع قدر من السلام الاجتماعي وقبول الآخر. لو كنا جادين في القضاء علي الأمية
- بدلاً من الشعارات - لكنّا قضينا علي الفقر المدقع والجهل، وقللنا من الفوارق
الطبقية بحق وحقيقي، فالجهل والفقر المدقع وجهان لعملة واحدة. لو كان فيه حد
أدني للدخل وللخدمات ما كانت النظرة الدنيا للعديد من الوظائف في المجتمع، فبعض
الوظائف ينظر إليها المجتمع علي أنها (شحاته).
أخطر ما نواجهه الآن هو أننا لم نعد نشارك بعضنا البعض ذات القيم الاجتماعية
والثقافية والدينية، والسبب هو التعليم. كان أحد أساتذتي في المملكة المتحدة، من أكبر أساتذة القانون
والمحامين، وصار قاضياً مرموقاً بعد ذلك، وكانت له ابنة تعمل معاونة لرئيس وزراء
بريطانيا في ذلك الوقت، وكان شديد السعادة والفخر وهو يتحدث عن ابنه ـ وليس ابنته
- الذي قرر أن يصبح «طباخاً». وكان يشجعه علي أن ينجح في ذلك. لم تتبرأ منه
العائلة أو تلفظه، ولم ترفت الحكومة أباه القاضي. يوم أن نصل إلي هذا
ولن نصل إليه إلا بإصلاح التعليم ومؤسسات الدولة - لن تكون لدينا مشكلة، ولا
جريمة غير لائق اجتماعياً... وللأسف لست مطْمئناً أننا جادون في تحقيق السلام
والأمن الاجتماعي بشكل جاد. هذا طريق طويل يحتاج إلي سنوات عديدة لم نبدأ فيه
بعد.
بالمناسبة، كلمة إلي السيد رئيس مجلس الوزراء، ووزير العدل الجديد؛
وزارة العدل تحتاج إلي إعادة هيكلة، وإلي تطوير حقيقي لمؤسساتها التابعة لها.
إدارة شئون المحاكم من الناحية الإدارية تحتاج لثورة حقيقية، وتحتاج إلي
الاستعانة بفنيين ومهنيين متخصصين في الإدارة وصيانة المباني وتطويرها. العمل
الأرشيفي والإلكتروني يحتاج إلي نقلة نوعية. مراكز تدريب القضاة ودعمهم
بالمكتبات والمراجع الدورية بشكل إلكتروني يحتاج إلي ثورة إدارية حقيقية. لا
يمكن استمرار عمل «الخبراء» بهذه
الطريقة العقيمة والتقليدية، ففي ذلك مساس حقيقي بسلامة مرفق القضاء. لا أفهم لماذا تظل تبعية الشهر العقاري لوزارة
العدل، تطوير الشهر العقاري نوعياً سينقل مصر معه إلي القرن الواحد والعشرين. هل
وزير العدل في حاجة إلي أكثر من 20 مساعداً لوزير العدل؟ هل من المقبول أن تستمر
إدارة الكسب غير المشروع تحت مظلة وزارة العدل، أم آن الأوان لكي تخضع للمجلس
الأعلي للقضاء؟ فك الاشتباك بين إدارة التشريع ووزارة العدالة الانتقالية يصب في
مصلحة التشريع في مصر، هناك قرارات كثيرة يتعين علي وزير العدل الجديد أن يتخذها...
الله معه اللينك
استمع الي المقال عبر منصة اقرأ لي.. اللينك
|
0 التعليقات:
إرسال تعليق