جريدة الاخبار - 9/4/2015
إن كافة آمال الشعوب وطموحاتها، والسياسات الإصلاحية الجادة، تنكسر علي
حائط بيروقراطية الجهاز الإداري للدولة وفساده
لسنا هنا بصدد تقييم فترات حكم الرؤساء جمال عبد الناصر، ومحمد أنور
السادات، وحسني مبارك، ولكن في رأيي أنه كان لهم جميعاً خطأ مشترك واحد وقعوا فيه. جميع الرؤساء السابقين ركّزوا في
محاولات النهضة فقط علي فكرة المشروعات القومية الكبري؛ فكان للرئيس جمال عبد الناصر
طموحات قومية داخل مصر وخارجها، بدءاً بمشروع الوحدة وتحرير أفريقيا والدول
العربية، مروراً بإنشاء الصناعة الوطنية وانتهاءً بمشروع السد العالي.
وكذلك الرئيس السادات كان له مشروعاته القومية بدءاً بحرب أكتوبر،
وانتهاءً بالمدن الجديدة (6 أكتوبر، والسادات، والعاشر من رمضان). أما الرئيس
مبارك فكانت مشروعاته القومية أقل طموحاً، وتركزت علي استكمال البنية الأساسية مثل
الكباري ومحطات الكهرباء والمياه وخطوط التليفونات ومترو الأنفاق، واستكمال
التوسعات في المدن الجديدة.
ولكن لم يهتم أي منهم أو يعطي أولوية لإصلاح الجهاز الحكومي ورفع
كفاءة أداء المرافق العامة والقائمين عليها. فلم يكن الإصلاح المؤسسي علي قائمة أولويات
أي من الرؤساء المذكورين. وهذا هو مربط الفرس، والفارق بيننا وبين دول أخري نجحت
رغم أن مصر بدأت معها برامجها في الإصلاح الاقتصادي.
ففي حين ركزنا في مصر علي الإنفاق علي المرافق العامة الجديدة،
وسياسات الإصلاح الاقتصادي؛ لم نعط أولوية في إصلاح الجهاز الحكومي وتطوير أدائه،
ومعه تطوير مرفق التعليم. في حين اعتمدت دول -مثل كوريا الجنوبية وسنغافورة
وماليزيا وتركيا وقبلها هونج كونج- علي محاور ثلاثة رئيسية، وهي تستهدف تحقيق
معجزتها الاقتصادية، أولها: تحسين المرافق الأساسية من خلال مشروعات قومية عملاقة،
وثانيها: رفع مستوي وأداء الجهاز الحكومي بمعناه الواسع، وجذب أفضل العناصر
والكفاءات للعمل الوزاري والعمل الحكومي، وللمستشفيات العامة والمصانع المملوكة
للدولة. وواجهت هذه الدول الفساد الحكومي بوضع نظم مالية لجذب أفضل العناصر الفنية
والمهنية، علي الرغم من نقص الموارد الحكومية في ذلك الوقت.
تغيير حكومة بعد حكومة في ذات المناخ المؤسسي سيؤدي إلي نفس النتيجة
وذات الفشل ما لم يكن تغير الحكومة مصحوباً بتغير مؤسسي حقيقي. هذا ما قاله (لي
كون يون) مؤسس سنغافورة الحديثة.
أما المحور الثالث للإصلاح فكان الاهتمام بالتعليم وجودته ومضمونه
الاجتماعي، وما يحمله من قيم التعلم وروح العمل الجماعي، وخدمة المجتمع، والإنجاز،
والعدالة. وبالمناسبة مستوي التعليم في مصر سواء التعليم الأساسي أو الفني أو
العالي في الستينات، بل وحتي منتصف السبعينات، كان أعلي من مستوي التعليم في هذه
الدول جميعها.
لن أملّ وأنا أكرر يوماً بعد يوم، أن مصر لن ينصلح حالها ولن تقوم
لها قائمة ما لم نبدأ بجدية في الإصلاحين المؤسسي والتعليم. مهما بنينا من مشروعات
قومية، وحققنا من إنجازات في هذا المجال، فلن يؤتي ثماره وتتحقق الاستمرارية في
النمو؛ والإصلاحين الاقتصادي والاجتماعي -كما حدث في الهند والصين وتركيا
وماليزيا- دون أن يواكب ذلك إصلاح حقيقي للجهاز الحكومي ومرفق التعليم. بل إن هناك
تجارب بعيدة عنا حققت طفرات وقفزات تستأهل الدراسة وهما فيتنام وسريلانكا... هذا
البلد الأخير كان من أفقر شعوب العالم، وبه حروب أهلية فتاكة. نسبة الأمية في هذا
البلد تضاءلت في أقل من عشر سنوات إلي أقل من 4%
إن كافة آمال الشعوب وطموحاتها، والسياسات الإصلاحية الجادة، تنكسر
علي حائط بيروقراطية الجهاز الإداري للدولة وفساده.
مصر لا تخلو من التجارب الناجحة. القطاع المصرفي في مصر بنهاية 1999
وبداية 2000 كان يحتوي علي أكثر من 40 بنكاً مفلساً
بمعني الكلمة، وكان من أكثر القطاعات فساداً. بدأت خطة إصلاحه الحقيقية بنهاية عام
2002، ولم يكن من الممكن تحقيق أي نجاح بشأن السياسات النقدية، وزيادة الاحتياطي
النقدي الأجنبي، وتوسيع قاعدة الإقراض، وضخ الاستثمار في الاقتصاد الوطني وتمويل
المشروعات دون إصلاح مؤسسي للقطاع. فبدأت خطة الإصلاح بتعيين أكثر الناس كفاءة في
القطاع المصرفي، فعمل بالبنك المركزي د. فاروق العقدة محافظاً له، وعمل معه أفضل
الكفاءات المصرفية والتي لايزال جميعهم علي قمة القطاع المصرفي الآن سواء داخل
البنك المركزي أو في البنوك العامة أو البنوك الخاصة، وبدأت خطة الإصلاح بإعادة
هيكلة البنك المركزي ذاته، وتطوير دوره في المحافظة علي استقرار الأسعار، وسلامة
ومتانة الجهاز المصرف». وكانت البداية بديهية لأصحاب العقول، فإذا كان البنك
المركزي بنك البنوك وبنك الحكومة ضعيفاً ومترهلاً، فسيكون وضع القطاع المصرفي،
والاقتصاد المصري كله كذلك. ومن هنا كانت بداية الإصلاح هي الإصلاح المؤسسي لبنك
الحكومة، وتبع ذلك إصلاح القطاع المصرفي برمته، وفي أقل من 4 سنوات فقط من بداية
الإصلاح أصبح القطاع المصرفي المصري في خلال الأزمة المالية العالمية من أقوي
القطاعات وأقلها تأثراً ولم تسبقه سوي سنغافورة. ولم تتأثر استثمارات البنك
المركزي خارج مصر رغم الأزمة المالية العالمية في 2008 لأن إدارة هذه الاستثمارات
عهد بها إلي أكثر الناس خبرة وكفاءة، فكان أثر الخسائر محدود للغاية.
هناك نموذج آخر نجح بشدة، وإن كان حقه مهضوماً، وهو قطاع الاتصالات
وتكنولوجيا المعلومات في مصر. هذا القطاع نجح بنهاية التسعينات في تحقيق طفرة
هائلة في مستوي تحسين الخدمات، ودخول مصر للعصور الحديثة، نجاح هذا القطاع أيضاً
بدأ بعمليات إصلاح مؤسسي حقيقية للجهاز الحكومي والرقابي، وشركات الخدمات العامة،
وفتح المنافسة المشروعة، فنجح هذا القطاع ليضع مصر علي خريطة العالم، ونجح في جذب
كفاءات عالية للعمل الحكومي، ونجح من خلال الإصلاح المؤسسي في أقل من خمس سنوات في
تحقيق قفزة، وللأسف تعرض هذا القطاع للإهمال علي مدار الخمس سنوات الماضية، ومع
ذلك تحتل مصر علي مستوي البنية الأساسية وكفاءة القطاع رقم (61) علي مستوي دول
العالم البالغ عددها حوالي 151 دولة. واستمرار الإصلاح المؤسسي في هذا القطاع أمر
ضروري ولازم لإصلاح التعليم وجذب الاستثمار وتحقيق التنمية الإدارية والإصلاح
الحكومي بشكل عام.
إتمام المشروعات القومية وحده ونهضته لن يحقق التنمية، فعلي سبيل
المثال؛ محطات الكهرباء التي أنشأتها الدولة تعمل معظمها بـ35% من طاقتها بسبب سوء
حالة الصيانة والتشغيل، في حين تبلغ كفاءة محطات الكهرباء التي يديرها القطاع
الخاص 97% إلي 100% من إجمالي طاقتها. ما لم نحسن تدريب الجهاز القائم علي الصيانة
ونطور كفاءته الإدارية والمالية فستتحول هذه المشروعات
إلي خرابات...
هناك قطاعات في الدولة بأقل مجهود يمكن أن تساهم في تحقيق طموحاتنا،
علينا أن نحافظ علي نجاحات القطاع المصرفي وقطاع الاتصالات، ويجب أن تنتقل نوبة
الإصلاح إلي قطاع الكهرباء والبترول والنقل البري والبحري، والتعليم، والقضاء،
والموارد المائية، والاستصلاح الزراعي والثروة السمكية. لو نجحنا ونحن قادرون- علي
تحقيق طفرة ملموسة في هذه القطاعات خلال الأعوام الثلاثة القادمة وأعطيناها
الأولية، سنحقق انطلاقة عظيمة في كافة المجالات بعد ذلك... صدقوني. اللينك
استمع الي مقالي فى الاخبار
عبر اقرأ لي.. ارجو ان ينال اعجابكم. اللينك
|
0 التعليقات:
إرسال تعليق