ارجو أن تعي الحكومة الجديدة أن إنعاش مصر
اقتصادياً أصبح طريقاً لا مفر منه، ولا بديل عنه لحل مشاكل المجتمع المصري. مع
الوضع في الاعتبار أن الحكومة الجديدة تتسلم المسئولية في مواجهة عجز غير
مسبوق في موازنة الدولة، ومعدلات تضخم تصل إلى 18% عند أحسن تقدير، وعجز في
الاحتياطي النقدي الاجنبي ينذر بوقوع كارثة محققة حال توقف الحكومة عن سداد ديونها
الخارجية، ومواجهة احتياجات الوطن من سلع غذائية وهي أمور تسوء ما حدث
لليونان ولا تتوقف المواجهات المقبلة عند هذا الحد فهناك أزمة البطالة
وتبعاتها الاجتماعية، وتوقف أكثر من 1200 مصنع عن العمل ، وتشابك أزمات الاستثمار
تحت وطأة الإضرابات وإلغاء العقود والتحقيقات الجنائية، وملفات مفتوحة منذ سنوات
دون حسم.
ومما يزيد الطين بلة أن المؤسسات الحكومية
في حالة هزال، وضعف إداري يجعل من تنفيذ السياسات والاستراتيجيات مهما بلغت دقتها
أمر شبة مستحيل، تتحول معه كل مشكلة إلى أزمة كبيرة.
وهنا اريد ان اتكلم على إحدى الوزارات
الاقتصادية الهامة وكيف يمكن التعاطي معها في المرحلة القادمة ألا وهي وزارة
الاستثمار. وهذه الوزارة رغم أهميتها بحكم الملفات التي كانت ملقاة على عاتقها
أصيبت بالسكتة القلبية منذ سبتمبر عام 2010، ورحيل أول وآخر وزير لها، وهو
الدكتور/ محمود محي الدين. فهذه الوزارة تضطلع بمسئولية ملفات اقتصادية ثلاثة
هامة. أولها، القطاع المالي غير المصرفي ويشمل سوق المال والبورصة، وقطاع
التأمين، ونشاط التمويل العقاري، والتأجير التمويلي والتخصييم. وثانيها، ملف
الاستثمار ترويجاً ورقابة، وثالثها، الإشراف على شركاتقطاع الأعمال العام
بمؤسساته القابضة والتابعة وبما في ذلك قطاع السياحة، والصناعة، والنقل، والإسكان
والتشييد، والغزل والنسيج وغيرها.
الشاهد أنه لابد من الإبقاء على وزارة
الاستثمار – من حيث المضمون حتى ولو تغير المسمى – في المرحلة الحالية لأن في
تفكيكها وإعادة توزيع ملفاتها بين الوزارات الأخرى مزيد من الإرباك لدولاب العمل،
وتعطيل لعملية الإصلاح بلا مبرر خاصة، وأن عملية صنع القرار في القطاع الاقتصادي
أصيبت بالعطل منذ ما يقرب على عامين. كما أن في الإبقاء عليها بمثابة إصدار رسالة
واضحة أن تشجيع الاستثمار ودعمه لا يزال من أولويات الحكومة في مصر.
إعمالاً لتفعيل الأداء الحكومي وتقليل
النفقات، أرى ضرورة دمج وزارتي الاستثمار والتعاون الدولي في هذه المرحلة إلى
وزارة واحدة. كما يجب إعادة الهيكلة والتطوير المؤسسي للجهات المعنية داخل
الوزارة بهذه الملفات الاقتصادية الحيوية. وكذلك يلزم تطوير وإعادة هيكلة
هيئة الرقابة المالية بحيث تتحقق لها الاستقلالية الكاملة بعيداً عن الحكومة فيكون
هناك جهاز رقابي قوي للقطاع المالي غير المصرفي مسئول عن تطويره ودفع التمويل
للأنشطة الاقتصادية وخاصة السوق الأولية. فالهيئة على الرغم من التطور الذي أصابها
لا تزال تحتاج إلى عملية إصلاح هيكلي ومؤسسي كبيرة لكي تؤدي الدور المرجو منها،
وعندئذ فقط يتم فصلها عن وزير الاستثمار، ويكون لها ذات الحكم القانوني للبنك
المركزي المصري.
ويجب تطوير الدور الترويجي لهيئة
الاستثمار، فالترويج يعني الترويج لمصر، ولمشروعات بعينها، فهيئة الاستثمار دون
دعم كافة الوزارات والحكومة لها ستعجز عن الترويج لمشروع واحد، وهذه هي (المأساة
الحقيقية) فالترويج للاستثمار في مصر هو ترويج للبلد بأكملها، وهو ما يخرج عن
صلاحيات جهة بعينها. ومشاكل الاستثمار لا تخص الهيئة بل هي في حقيقتها تتعلق بكل
الوزارات كالإسكان والصحة والتجارة والدفاع والداخلية. ومن هنا لزم تكوين لجنة
وزارية يكون أمينها وزير الاستثمار ويرأسها نائب لرئيس الوزارء تكون مهمتها
الرئيسية الحل الفوري على مدار الأربع وعشرين ساعة لأزمات الاستثمار وتنفيذ رؤية
واضحة للحكومة في هذا الشأن.
إعادة النظر في لجان فض المنازعات، فهي
آليات عقيمة لم يثبت نجاحها، وللأسف صارت معظمها مضيعة للوقت والمال.
فهذه اللجان يجب أن تكون لها فاعليتها،
ولها قراراتها الإلزامية ويجب أن تعمل في إطار زمني محدد.
ثم ان اتخاذ قرار بتسوية كافة المنازعات
محل التحقيقات الجنائية، يبعث برسالة واضحة عن الاستثمار في مصر.
وعلى الحكومة أن تسعى خلال الـ 120 يوماً
الأولى على إعادة فتح كافة المصانع التي تم إغلاقها.
لا يمكن الاستمرار في إدارة قطاع الأعمال
العام على ذات النحو الذي يسير عليه، ففي ذلك جريمة لا تغتفر في حق الوطن. فيجب
فصل الملكية عن الإدارة بحيث تظل الملكية للدولة، على أن تعهد هيكلة القطاع
وإدارته لكفاءات متخصصة تعمل وفقاً لآليات الكفاءة والإدارة الناجحة، فيحظر تدخل
الدولة في عملية الإدارة، كما يجب أن تتخذ الحكومة الجديدة قرارات حادة وحاسمة
بشأن الاستثمار الرأسمالي في قطاع الأعمال العام. وتجربة "الخزانة" في
ماليزيا ليست بعيدة عن أعيننا أن كنا جادين حقيقة.
ولا يخفى على أحد أن ما طرحناه الآن إنما
يدخل ضمن سياسات المدى القصير، ومحاولة إرسال رسائل إيجابية واضحة للمستثمرين
الجادين لإعادة البدء فيما توقف من مشروعات، ووقف نزيف تسرب الاستثمارات والفرص
الضائعة.
وفي جميع الأحوال، فلا أمل في تحقيق ما
نصبو إليه دون عودة الأمن إلى المجتمع، إرساء دولة القانون، وتنفيذ أحكام
القضاء، ووضوح الرؤية السياسية، وإذا كنا نسعى إلى البناء والتنمية بحق، وأن يكون
لهذا الوطن أمل في التنافس مع الأمم من حولنا وضخ استثمارات حقيقية في إطار من
العدالة الاجتماعية فإن المشوار طويل، ويستلزم إعادة النظر في ملف التعليم برمته،
والإصلاح المؤسس الحقيقي، واقتلاع الفساد الحكومي من جذوره.
0 التعليقات:
إرسال تعليق